كنا نسمع عن الصحابي الجليل سلمان الفارسي ، رضي الله عنه ، الباحث عن الحقيقة ، كيف عانى ، وسافر ، بحثاً عن الحقيقة ، حتى هداه الله للإسلام ، ونال مكانته ، وصار قدوة لمن يبحث عن الحقيقة في كل زمان بعده.
وأبو إكرام الفرنسي ، ترعرع في مجتمع علماني ، ليس للدين مكان فيه ، ترعرع في بيت نصراني ، في أعماق أوروبا ، قائدة الحروب الصليبية ، ظلمات بعضها فوق بعض ، ولكنه هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ، فسبحان الله من هدى أبو إكرام للإسلام .
كنتُ في زيارة عمل لشركة في فرنسا مع زملائي في العمل ، تلك البلاد التي اشتهرت بمحاربة الحجاب ، وتعرفتُ في رحلتي تلك بأخ مسلم فرنسي ، وُلِدَ في منطقة جونفيل – أعتقد هكذا اسمها – لأبوين نصرانيين ، انتقل إلى ليون ، وبدأ يتردد على مكتبة يعمل فيها مسلم مغربي اسمه " نور الدين " - الذي كانت له قصة جميلة سأذكرها في نهاية المقال - ، وهنا بدأت علاقته بالإسلام تتقوى ، كان ينظر للإسلام بأنه دين خطر ، وأن المسلمين مجانين الله وذلك لعبادتهم الدائمة لله ، كان بلال قبل إسلامه ملحد .
كان أخونا المغربي ينصحه بقراءة بعض الكتب ، وكان على صلة به ، وكلما أشكل عليه شئ رجع إليه يستفسر ، وكان أول كتابة قرأه عن الإسلام كتاب عن دراسة الإسلام لمؤلف من بخارى – لم أطلع عليه - ، وكانت هذه حاله حتى وقع كتاب يتحدث عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم " " 1000 إعجاز علمي في القرآن الكريم " ، وكعادته صار يقرأ الكتاب ، حتى وصل إلى " أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ " ، فأصابته دهشة ، كيف لرجل يعيش قبل أكثر من 1400 سنة في الجبال ، يعرف ذلك ، ولم نتوصل لها إلا باستخدام المعدات الجديدة ، فذهب وتوضأ ، وهو لم يسلم بعد ، ولكنه كان يعتقد إنه يجب أن يتوضأ إذا أراد أن يمسك القرآن ، ففتح ترجمة للقرآن باللغة الفرنسية ليتأكد من ذلك ، نعم هذا صحيح ، يقول : فذهلت ، وأغلقت الكتاب ، نعم لا أريد أن أفتحه ، وأردت أن أنسى ، ولمدة أسبوعين ، وأنا أعاني من الخواطر ، لا يذهب الأمر عني ، حاولت أن أنسى ، ولكن لا جدوى ، فأصبح أمامي طريقين ، طريق للجنة أعرف ما أريد من هذه الدنيا ، وطريق إلى النار لا أدري إلى أين سأذهب ؟!
وكان لديه صديقين آخرين ، أخ سنغالي وآخر تونسي ، فذهب إليهما ، وقال لهما : أريد أن أصلي ، فعلت الدهشة وجوههما ، نعم أريد أن أصلي ، وهو لم يسلم بعد ، ولكنه أراد أن يصلي فقط ، فبعدما توضأ ، علماه الصلاة ، وأسلم بعد ذلك بتاريخ 24/يناير 2001 وعمره آنذاك 24 سنة ، وتزوج تونسية وأنجب منها إكرام تلك الطفلة الجميلة – أسأل الله يبارك فيها - ، وعندما سألته عن انطباع أهله قال لي : أما أمي فبكت ، وأما أبي فلم يقل شيئاً.
وسألته : " ما هو شعورك عند سجودك أول مرة ؟ " قال لي : " أحسست في بادئ الأمر بثقل الأمر علي ، كيف أضع وجهي على الأرض ، فتنازعتني قوتان ، إحداهما لا تُريدني أن أسجد ، والأخرى تدعوني للسجود ، ولأني كنت أريد الصلاة ، فكان لابد لي من السجود ، وبعدها وجدت أن الأمر سهل ، فها أنا أضع وجهي الذي أكرمني الله به على الأرض ليس لأي أحد ، ولكنه لله الذي رزقنيه ، فأحسست بالذل والخضوع لله ، وهكذا ينبغي أن يكون المرء مع ربه "
عند وصولنا لفرنسا ، طلبنا من الشركة تهيئة مكان لنا للصلاة فيه ، كنا نجتمع في أوقات الصلاة ، للصلاة والحديث ، وكان يصلي معنا أبو إكرام ، الذي لمسنا من خلال وجودنا معه حبه للسنة ، وكان يفضي على جو الجلسات روح المحبة والمرح ، وعندما سألناه " أنت مختلف عن باقي الفرنسيين ، نرى من حولنا من الفرنسيين متجهمين ، عبوسين ، لا يتمتعون بروح المرح التي تتمتع بها أنت ، فلم ؟ " قال لنا : " إنه الإسلام الذي غيّرني !! " ، لقد أحببناه جميعنا ، ودعونا له بالثبات ، حرصه على الخير وعلى تعلم القرآن والاستفسار عن بعض الأمور الفقهية ، دليل على إخلاصه فأسأل الله الثبات لنا وله ، وكان معنا في العمل في موقع الشركة مسلميْن ، مغربي وتونسي ، ولكن ما كنا نستغربه حقاً أنهما لا يحضران الصلاة معنا ، وعندما سألنا أحدهم أخبرنا : " بأن الفرنسيين قد يطردوهما إن رأوهما يلتزمون الصلاة في أوقاتها ، وأنهما سيصليان في المنزل جمعاً بين الصلوات !! " ، قال أبو إكرام " كنت أصلي قبل مجيئكم خلف الباب ،- أي مستخفي - ولكن بعدما منَّ الله علينا بمجيئكم فها أنا أصلي معكم ، ولكن بالنسبة للعرب المسلمين ، الوضع مختلف ، فقد يطردون بسبب الصلاة معنا !!" ، ونقل لنا أبو إكرام صورة مصغرة عن التمييز العنصري ضد المسلمين هناك في فرنسا ، فأسأل الله أن يعين إخواننا هناك ، وأن يثبتهم على الإيمان والصراط والمستقيم ، فهم والله بحاجة للدعاء .
إن وجود المسلم في بلاد المسلمين ، يجعله عزيزاً بدينه ، ولكن عندما يكون في مجتمع كافر ، يملأ الخوف قلبه ، يكون خاضعاً ، ذليلاً ، مما يجعله يبتعد عن دينه قليلاً .. قليلاً ، وهذا هو وضع المسلمين في مجتمع الكفر ، إلا من رحم الله ، فعلى المسلم أن يخرج من هذه المجتمعات وأن يتجه للعيش في المجتمعات المسلمة ، حفظاً على نفسه ودينه ، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، لأنه إن نجا هو ، لم ينج أبناؤه من الانسلاخ من الدين ، والله المستعان.
كانت قصة أبي إكرام ، عادية ، لا توجد فيها معجزات ولا كرامات ، ولكنها قصة تثبت أن الإسلام ينتشر بقوة في البلاد التي تحاربه بقوة ،وأنه مهما حاربه الآخرون وروجوا عنه الشبهات سيأتي من يعتنقه ويحبه ، ويدافع عنه ، حدث نقاش بين أخينا أبي إكرام وأحد المهندسين في الشركة ، قال هذا المهندس : " إنكم يا مسلمون دائماً تتحدثون عن الإسلام ! " ، رد عليه أخونا أبو إكرام قائلاً : " نعم ، لأن ديننا يأمرننا بأن نتمسك به في جميع أمور الحياة ، ونتبعه ، أما أنتم بإمكانكم ألا تفعلوا شيئاً من أمور دينكم ، وتظلون تقولون نحن نصرى ، أما نحن فلا ، فديننا منهج حياة " .
وقصة أبي إكرام تثبت أن الإسلام يأسر القلوب ، وينتشر إذا لم يضع الكافر الحواجز ويسد الآذان ومن كان حالهم كمن قال الله تعالى عنهم : " وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ " فصلت 5
نعم هي قصة عادية ، نستفيد منها بأن لا نحقرن من المعروف شيئاً ، فانظر إلى تأثير هذا الكتيب ، فإن علينا هداية الإرشاد والدلالة ، ومن الله هداية التوفيق ، فما كان من " نور الدين " إلا أن أهداه كتاب ، وانظروا أنتم إلى النتيجة ، ولأن يهدي الله بك رجلا خير لك من أن يكون لك حمر النعم .
وكنتُ قد ذكرتُ أن لأخينا المغربي قصة جميلة ذكرها أبو إكرام ، عندما زار أبو إكرام المكتبة التي كان يعمل بها " نور الدين " ، أهداه " نور الدين " كتاباً ، فما كان من صاحب المكتبة إلا أن قال لـ" نور الدين " : أنت هنا لبيع الكتب وليس للدعوة !!
هل وقف " نور الدين " وخفض رأسه ؟! لا وألف لا ، ولكنه الإيمان ، فالمؤمن قوي بإيمانه ، إن تركه أو ضعف ، ضاع واستكان وأصبح ذليلاً.
قال " نور الدين " : هذه استقالتي !! ، تفاجأ صاحب المكتبة بالرد !!
وخرج " نور الدين" حاملاً في قلبه " من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه " ، فافتتح مكتبة إسلامية صغيرة ، رزقه الله منها الشئ الكثير ، وافتتح من ريعها مطعماً وتوالت الأرباح ، ويُقدِّر الله أن تخسر المكتبة الأخرى التي كانت عاملاً فيها لا مالكاً وهذا أمر الله ، له الحكمة البالغة والحمد لله أولاً وأخيراً
وبعد انقضاء الشهر وقبل رجوعنا ، جلستُ مع أبي إكرام ، نتجاذب أطراف الحديث ، شاكراً له حسن معاملته وضيافته ، وإثناء حديثنا صعقني بجملة قائلاً : " الآن سنرجع نصلي خلف الباب " ، يالله ، ثبتك الله يا أبا إكرام وغفر لك .
كان أبو إكرام محباً للخير محباً للإسلام والمسلمين ، قال أحد أصحابنا : " إسلامه أحسن من إسلامنا " ، لما لمسنا منه حب الخير والسنة والإتباع ، كان يحثنا للشراء من محلات المسلمين ، ودائماً ينصحنا بعدم شراء كوكا كولا ، ويقول عليكم بمكة كولا ، دعماً للمسلمين ، كان أبو إكرام مثالاً للمسلم العامل ، وإن كان عمره ثلاث سنوات إسلامية.
هذا أبو إكرام الفرنسي المسلم ، الذي اتخذ من " بلال" اسماً له ، حباً لبلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استأذنته لكتابة قصته ، لعلنا نستفيد منها ، أسأل الله لنا وله الثبات وأن يرزقنا الشهادة في سبيله ... اللهم آمين
لا يـوجـد تـعليـقات على هـذا القصة