نعم، ذكر العلماء أن أول من ضيف الضيفان أبونا إبراهيم عليه السلام (1).
وأما قصته مع الملائكة، فقد ذكرها الله تعالى في كتابه في عدة مواضع، ومنها قوله تعالى في سورة الذاريات (2): {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينِ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ}، قال السفاريني: ففي هذا من الثناء على خليله إبراهيم وجوه متعددة:
▪ أحدها: وصف ضيفه بأنهم مكرمون، وهذا على أحد القولين أنه إكرام إبراهيم لهم، والثاني أنهم المكرمون عند الله، ولا تنافي بين القولين.
▪ الثاني: قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ}، فلم يذكر استئذانهم؛ لأنه قد عُرف بإكرام الضيفان، واعتاد قِراهم، فبقي منزل ضيفه مطروقاً لمن ورده، لا يحتاج إلى استئذان، بل استئذان الداخل دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم.
▪ الثالث: قوله لهم: {سَلامٌ} بالرفع، وهم سلموا عليه بالنصب، والسلام بالرفع أكمل؛ لأنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام، والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد، فقد حياهم بتحية أحسن من تحيتهم، فإن قولهم: {سَلامًا} يدل على: سلمنا سلاما، وقوله: {سَلامٌ} أي: سلام عليكم.
▪ الرابع: أنه حذف المبتدأ من قوله: {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ}، فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفر الضيف لو قال: أنتم قوم منكرون.
▪ الخامس: بناء اسم المفعول للمجهول، ولم يقل: إني أنكركم، وهو أحسن في هذا المقام، وأبعد من التنفير، والمواجهة بالخشونة.
▪ السادس: أنه عليه السلام راغ إلى أهله ليجيئهم بنُزُلهم، والروغان هو الذهاب في اختفاء بحيث لا يكاد يشعَر به.
▪ السابع: أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة، فدل أن ذلك كان معدا عندهم، مهيأً للضِيفان، ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه، أو غيرهم فيشتريه، أو يستقرضه.
▪ الثامن: قوله: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} دل على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل: فأمر لهم، بل هو الذي ذهب، وجاء به بنفسه، ولم يبعثه مع خادمه، وهذا أبلغ في إكرام الضيف.
▪ التاسع: أنه جاء بعجل كامل، ولم يأت ببعض منه، وهذا من تمام كرمه صلى الله عليه وسلم.
▪ العاشر: وصف العجل بكونه سمينا، لا هزيلا، ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم، ومثله يتخذ للاقتناء والتربية، فآثر به ضيفانه.
▪ الحادي عشر: أنه قربه إليهم، ولم يقربهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة، أن يجلس الضيف ثم تقرب الطعام إليه، وتحمله إلى حضرته، ولا تضع الطعام في ناحية ثم تأمر ضيفك بأن يتقرب إليه.
▪ الثاني عشر: قوله: {أَلَا تَأْكُلُونَ}، وهذا عرض وتلطف في القول، وهو أحسن من قوله: كلوا، أو مدوا أيديكم، ونحوهما، وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه، ولطفه، ولهذا يقولون: بسم الله، أو ألا تتصدقوا، أو ألا تجبروا. وما ألطف ما اعتاده أهل بلادنا عمرها الله تعالى بالإسلام والتقوى من قولهم للضيفان إذا قدموا إليهم الطعام: (تفضلوا)، أي: تفضلوا علينا بأكل طعامنا، وهذا في غاية اللطف والحسن. قال الإمام ابن القيم في كتابه (جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام) (3) بعد ذكر ما ذكرناه: فقد جمعتْ هذه الآية آداب الضيافة، التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي هي تخلّف وتكلّف إنما هي من أوضاع الناس، وعوائدهم، وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً، فصلى الله على نبينا، وعلى إبراهيم، وعلى آلهما وعلى سائر النبيين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والله أعلم.
___________________________________________