باقى من الزمن ساعة
أغلقت على باب حجرتى وأطفئت نورها ... وكعادتى عندما اكون فى هذه الحاله
جلست امام مكتبى .. اراقب الدخان المتصاعد من فنجان القهوة الموضوع امامى
بينما يكاد صدرى ينفجر من وطأة الضيق والحزن اللذان يملأنه
كانت مئات الاسئله تدور فى ذهنى ..لماذا اشعر بهذا الشعور ألم افعل ذلك من
اجل المتعة؟؟ ... من اجل السعادة؟؟... لماذا الان اشعر بكل هذا الكم من
الضيق والحزن..أكل هذا من اجل انى عصيت الله.. من اجل انى ابتعدت عنه .. لو
كان الامر يقف عند هذا الحد .. فالحل بسيط .. ويتلخص فى كلمة واحدة ..
توبة
ولكن مهلا .. ألم اكرر هذا الامر اكثر من مرة ..؟.. وفى كل مرة كنت اقول
انى تبت ولن اعود ثانية ولكنى اعود.. واعود .. واعود .. ضقت من كثرة العودة
.. ومن كثرة الهزائم ..ومن كثرة النكسات .. وقررت .. قررت انى لن اتوب
ابدا ابدا الا قبل موتى فعندما اشعر باقتراب النهاية عند ذلك فقط ساتوب
توبة صادقة ..
ولكن هل يوجد من يخبرنى بموعد النهاية ؟؟ انه امر صعب .. بل هو المستحيل
بعينه ..
تعبت من كثرة التفكير .. وعدت اتابع الدخان المتصاعد من فنجان القهوة ..
والذى ارتسم مع اشعة القمر المنسابة عبر النافذة بصورة شاعريه جميله
كأنها صورة وجه رجل عجوز ذو لحيه بيضاء .. او هكذا خيل لى .. لكن الغريب فى
الامر ان هذا الوجه يشبه كثيرا وجه جدى رحمه الله .. نفس اللحية .. نفس
الوجه المنير..
مددت يدى فى تردد ناحية الدخان محاولا بعثرته .. لكن الوجه لم يتغير بل
علته ابتسامة عريضة .. هتفت .. جدى أهو أنت ..؟؟
اجابنى بصوته الهادئ المعهود.. كيف حالك يا بنى؟
لم اصدق نفسى .. ظننت اننى احلم .. لقد مات جدى منذ امد بعيد .. والاحياء
لا يرون الاموات ... لا يرونهم ابدا .. الا اذا...
جدى هل اتيت لتاخذنى معك ؟؟.. هل اقتربت نهايتى ..؟؟
تبسم فى هدوء .. ثم تمتم :
يابنى كل الناس راحلون .. وكل شئ له بداية لابد ان يكون له نهاية جدى انا
اسالك سؤال محدد .. هل حانت لحظتى ..؟
أطرق لحظة ثم قال .. لا يا بنى لم تحن بعد ..
اذا انت تعلم ..؟ اخبرنى كم بقى من عمرى ..؟
لا داعى يا بنى .. لو تعلمون الغيب لاخترتم الواقع ..
جدى اتوسل اليك .. كم بقى من عمرى ..؟؟
ان كنت مصرا فلتتحمل النتيجة .. الباقى من عمرك ساعة
ساعة .. رددت فى ذهول ساعة
اجاب نعم ساعة .. ساعة فقط
تبعثر الدخان مع اضاءة نور الحجرة عندما دخلت والدتى مفزوعة وهى تهتف ..
مالك يا بنى ؟؟ رددت فى ذهول .. ساعة واحدة ..
ساعة ايه يا بنى
قلت بصوت متهدج : فاضل ساعة يا ماما .. فاضل ساعة..
تركتها تنادى عليا دون ان اجيبها .. نزلت الى الطريق كالمذهول ظللت سائرا
على غير هدى ..لا ادرى ماذا افعل .. وان عرفت ماذا افعل .. فهل ساعة واحدة
تكفى لفعل شئ ..؟؟
تذكرت كم من الساعات التى ضيعتها دون اهتمام .. كان العمر يمر منى دون ان
اعمل له اى حساب ...
ماذا لو ضاعت ساعة .. ماذا لو ضاعت عشرة او حتى ضاعت السنة كلها...
لم يكن هناك فارق .. اما الان .. فانا الان .. الان اتمنى لو عادت تلك
الساعات مرة اخرى .. اتمنى لو تعود لحظة بلحظة .. وثانية بثانية ..
ولكن ما عاد ذلك التمنى يجدى .. وما عدت املك الا تلك الساعة..
نظرت فى الساعة فوجدتها الثالثة صباحا .. اذا فبعد ساعة من الان وفى تمام
الساعة الرابعة .. سينتهى كل شئ .. وستتوقف كل الساعات معلنة نهايتى
على استغلال كل ثانية فى هذه الساعة .. ولكن ماذا افعل.. هل اقرأ القرآن
؟.. اننى نادرا ما كنت امسك المصحف .. نعم ساستغل هذه الساعة فى تلاوة
القرآن .. لكن ماذا يفيد القرآن ان لم اكن اصلى ..؟
اذا ساقطع هذه الساعة فى الصلاة .. ولكن قبل هذا على ان اتوب .. ان استغفر
الله من كل الذنوب .. من التقصير فى الطاعات .. من الغدرات والفجرات ..
عدت مرة اخرى الى البيت .. واغلقت على نفسى باب الحجرة .. استقبلت القبلة
.. ورفعت يدى بالتكبير .. كان ماء الوضوء يتساقط من وجهى مختلطا بدموع عينى
..كان هناك شعور غريب يملؤنى .. مزيج عجيب بين الخوف والرجاء ...
خوف شديد من الله وانتقامه ... خوف من الوقوف بين يديه .. من سؤاله وحسابه
.. من ناره وعذابه ..خوف يجعل الدموع تنهمر منى رغما عنى .. ويجعل جسدى
ينتفض كالعصفور المبتل ..
ورجاء يجعل الصلاة متعة ليس بعدها متعة .. ويجعل القلب ينتفض حبا من
اشتياقه للقاء الله عز وجل .. وشوقا الى نعيمه وجنته ..
سجدت بين يديه .. وكأنى لم اتعلم السجود الا اليوم .. ظللت أناجيه فى جوف
الليل .. أسبح بحمده .. أستغفره وأثنى عليه ..
عجبت .. كيف لم اذق هذه اللذة قبل اليوم .. وكيف فرطت فى عمرى هباءا دون ان
اتمتع بهذه المتعة
ظللت هكذا ساجدا .. فلقد اردت ان يقبضنى الله وانا ساجد بين يديه
وفجأة .. دقت الساعة معلنه تمام الرابعة .. ودق قلبى معها فى عنف .. لم اكن
اتخيل ان يكون الموت بهذه البشاعة .. ان انتظار الموت اصعب بكثير من الموت
ذاته
لكن الساعة ظلت تدق وتدق .. ومرت دقيقة وعشرة وساعة .. ولم يحدث شئ ..
مخادع .... هكذا هتفت عندما رأيته مرة اخرى
سامحك الله يا بنى
نعم مخادع .. ألم تخبرنى انه لم يبقى من عمرى غير ساعة ؟؟..
نعم يابنى .. ومازلت مصرا على ما قلت .. فلم يبقى من عمرك غير ساعة ..
كيف .. كيف .. وانا مازلت حيا امامك كما ترى ؟؟
يابنى .. حتى لو بقى من عمرك مائة سنة .. فهى بمقاييس الاخرة ساعة .. مجرد
ساعة .. ستمر عليك وكأنها ساعة .. ستستغلها وكأنها ساعة .. وستنظر اليها
بعد مرورها على انها ساعة .. ساعة واحدة فقط .. مجرد ساعة
ألم تسمع قول الله عز وجل (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من
نهار )
ألم تسمع قوله (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة )
يابنى .. الدنيا كلها مهما طالت .. ستظل دائما ساعة .. استغلها من استغلها
.. واضاعها من اضاعها
تركنى ورحل .. لا ادرى أكان هذا حلما ام حقيقة .. واقعا ام خيال ..
ولكن ما اثق منه جيدا ..
أن الباقى من الزمن ... ساعة
عندما قرأت هذه الرسالة بكي قلبي ودمعت عيناي وتردد في ذهني سؤالا
هل حقا أستغللنا أوقات وساعاتنا في طاعة الله أم في معصيته؟؟؟
هل حقا أستعددنا للقاء الله أم نحن ما زلنا في لهونا؟؟؟
هل نحن مدركين حقا حجم معاصينا أم تمر علينا مرور الكرام؟؟؟
هل نحن فعلنا كل ما أمرنا الله به ومنتظرين اللقاء بشوق ولهفة أم ماذا؟؟؟
هل نحن أخذتنا الدنيا ومتاعها أم ماذا؟؟؟
هل نحن مستعدين للأخرة والموت في أي لحظة أم ماذا؟؟؟
بالله عليكم أجيبوني للأنني لم أستطيع أن أجيب على أسئلتي هذا أخاف أن أكون
ممن أخذتهم الدنيا ومتاعها وتركوا الأخرة وجناتها
أخاف أن أكون ممن عصوا الله ولم أدرك حجم معصيتي
أخاف وأخاف وأخاف ولكن إلى متى الخوف